من الثانوية الى دار المعلمين
الفترة من (81-85) كانت بالنسبة لنا بمثابة وقت مستقطع للخروج من دائرة الوصاية الاسرية والرقابة المجتمعية المحافظة او هكذا كنا نعتقد وكأننا ننشد التحرر والاستقلال من تلك القيود او الكوابح التقليدية لكننا لم نجد في ابين-زنجبار العاصمة الا ما جعلنا نتعرّف على ذواتنا اكثر من ذي قبل وزادنا مسئولية والتزام وانضباط ، حيث كان الاوائل ممن سبقنا للدراسة على مر السنين منذ الخمسينات قد تركوا ارثا وذكرا طيبا وسيرة عطرة لمن اتى بعدهم ، وما ان تبدأ الحديث مع احد في ابين سرعان ما تسمع عبارات الثناء والاشادة باهل احور عموما. كان مساعد المراقب في القسم الداخلي يرحب بنا عند الوصول: اهلا وسهلا بعيال احور الطيبين. شيء جبتوا لنا بصل؟ بدأ سؤاله مألوفا اذ كانت اجابات بعض الزملاء له بالإيجاب ، وعرفنا بعدها ان هذه عادة متوارثة تعاقبت عليها اجيال منذ زمن، وهكذا ترى شيء من الاهتمام والمجاملة، وتسمع من ينصح باختيار هذا القِسِم او تلك الغرف لما يميزها عن غيرها من حيث النظافة والهدوء وخلاف ذلك، وفي المدرسة يوزع ابناء احور على مختلف الشُعَبْ الدراسية حتى تكون الفرص متكافئة على المراكز الأولى، وكثيرا ما يحدث عندما تستصعب مسألة ما في بعض الصفوف يستدعى طالب من ابناء احور لحلها ، وهذا لا يعني ان الاخرين غير اذكياء او مجتهدين وليس هذا ما اعنيه بالطبع بل لان ابناء احور اتوا من مكان بعيد بعكس اهل المدينة الذين تتوفر لهم وسائل الراحة والاستقرار النفسي والذهني اكثر من الساكن في الداخلية ويفتقروا الى الكثير من وسائل الراحة، وهكذا يظهر ابناء احور شيئا من التآلف والتأخي والتعاون فيما بينهم ومع الاخرين، ومن هنا يجد الفرد منا نفسه ويرى مكانته وموقعه بعيون محايدة، وبالتالي الصورة الناصعة التي لا تستحق ان يشوّهها احد مهما بلغت تفاهته، والاكيد هو اننا جميعا لم نكن نحمل حينها الا بضاعة مطلوبة ومرغوبة عند الآخر فما بال اكثرنا يعتقد انها قيود او موانع تحول بينه وبين الحداثة والتطور والمدنية؟ فهاهم من نعتقد انهم متطورون ومتمدنون يفاخرون بنا على ما نحن عليه، إذا نتحرر من ماذا ؟،، واين هي تلك القيود؟؟. انتظمت مع اخوتي وزملائي في ثانوية الشهيد ناصر احمد صالح (زنجبار)، وكان اخي ناصر قد سبقني اليها بسنة دراسية، الا انه قرر ان يترك المدرسة ويلتحق بشرطة النجدة. اكملت العام الدراسي الاول في الثانوية على خير ما يرام وقبل ان تبدأ السنة الجديدة كنت قد حسمت أمري في عدم الذهاب الى التجنيد او ما يعرف بالخدمة العسكرية الالزامية وهو المآل الذي ينتظرنا بعد انقضاء مرحلة الثانوية العامة، كما وان الحال التي عليها اخي ناصر لا تغري أحد بالالتحاق بالعسكرة اذ كنت أزوره باستمرار وهو مازال في مرحلة التدريب والتأهيل في مدرسة البدو الرحل (باجدار) ولم يكن حالهم بأحسن مما كانوا عليه في الثانوية. ساعد وجود الاستاذ عبود قيسان عميدا لدار المعلمين في ابين الى حد كبير في نقلي من الثانوية لا بل انه بعد علمه برغبتي بالانتقال اهتم شخصيا بهذا الموضوع وتابع الاجراءات وأنهى لوازم النقل بنفسه في اول ايام السنة الدراسية الثانية وهكذا انتظمت بدار المعلمين في الحصة الرابعة من ذلك اليوم كما اذكر. وفي دار المعلمين شعرت بالاستقرار الى حد ما وبان ملامح المستقبل بدأت تتضح كما اتمناها ، أي سيكون الالتحاق بكلية التربية سريعا وسلسا بعد الانتهاء من هذه المرحلة دون انقطاع بفعل الخدمة العسكرية، كما حضينا باهتمام خاص من الاستاذ عبّود فقد كان نعم المدير ونعم المربي الناصح والموجّه الحريص دائما على ان نكون من المبرّزين والمتفوقين، ونعتقد انه لم يخب ظنه فينا جميعا. العام الدراسي 82-83 هو العام الثاني في زنجبار والاول في دار المعلمين، وكانت هذه السنة اكثر هدوء من سابقاتها اذ لاحت بوادر للتنمية كبديل ناجع عن التوتر والاستقطاب والتمترس الشللي والمناطقي وصرفت انظار واهتمامات الناس الى مايفيد ويمكن ان يبنى عليه ان اردنا. وبعيدا عن تسلسل الاحاديث والاحداث فقد كانت فترة زمنية هادئة الى حد ما، مع انفتاح خجول على دول الجوار وعلامة ذلك ارتفاع نسبة الحجاج الجنوبيين وعودة ملفتة للمغتربين والزائرين من الخليج والدول العربية، والسماح للمواطنين الذين منعوا من السفر في السابق بموجب الضمانات التجارية التعجيزية ومنهم والدي رحمه الله الذي غادرنا الى السعودية منتصف الثمانينات بعد ان منع من مغادرة البلاد حسب الضمانة التجارية التي افرج عنه بموجبها اواخر العام 74م. كما تم اطلاق سراح آخر سلاطين العوالق السفلى السلطان ناصر بن عيدروس بن علي العولق في العام 84م والسماح له بالسفر الى السعودية بعد اكثر من 15عاما قضاها في سجن المنصورة ، وبالطبع هناك العديد ممن استفاد من تلك الاجراءات المرنة التي كان ينتظرها الجميع في الداخل والخارج، وهذا فقط ملمح سريع لحقبة زمنية من تاريخ بلادنا المليء بالمتناقضات. يبدو ان عبدالفتاح اسماعيل يأبى الا ان يكون متواجدا اينما وجد التوتر وتعدد المتارس والخنادق، فبعد ان شهدت فترة رئاسته لدولة الجنوب احتقان سياسي ومناطقي انتهى بمغادرته البلاد في ابريل 81م فان عودته في 7/مارس/85م بعد ضغط القواعد الحزبية كما قيل، وبعد عودته تولى منصب سكرتير اللجنة المركزية لشئون الإدارة كأولى النتائج للضغط الممارس من قبل التيار المناوئ لتوجهات علي ناصر محمد، ومنذ تلك اللحظة التي احدثت معها عودة فتاح كل الإرباكات التي وصفت بانها اجراءات ضرورية لحماية النظام، وقيل انها ضغوط روسية وفرملة لقطار (ناصر) المنطلق بسرعة هائلة نحو التقارب والانفتاح على العرب والخليج على وجه التحديد. احدثت هذه البلبلة تصدعا في الكيان السلطوي للدولة وبدأت الخلايا السرية تنشط من جديد والجميع يعد عدته للتخلص من الاخر، وفي شهر مايو 85م توقفت المؤسسات والقطاعات الحكومية عن العمل وشلّت الحياة بفعل التعبئة والحشود، واصبحت مرافق الدولة عبارة عن معسكرات ايواء للمتطوعين للدفاع عن توجهات فرقاء السلطة المتصارعة. وكما كان لنا مع المضحكات وقفة، فان الوقوف على المبكيات اكثر تأثيرا وموعظة من المضحكات في اعتقادي. توقفت الدراسة في الثانويات والمعاهد، وعاد معظم الطلاب الى مدنهم وقراهم، وبقينا نحن طلاب السنة الرابعة المقبلون على الامتحان الوزاري الأخير، إذ تركنا السكن في القسم الداخلي وانتقلنا الى شقة خاصة في مجمع العمارات الجديد، وكان يسكن في الجوار مسؤول امني في المحافظة وبحكم ترددنا المستمر على الشقة تم استدعائي واحد الاخوة من قبل أحد المدرسين المكلّفين من قبل مسؤول الامن بحصر الطلاب في الداخلية التابعة لثانوية زنجبار، كلٍ حسب توجهه او منطقته. كان الوقت بعد منتصف الليل عندما ركبنا سيارة حكومية تويوتا طربال (حبة وربع) واتجهنا الى منزل احد مساعدي مراقب القسم الداخلي بالثانوية فلم يتردد او يعتذر وانطلقنا سويا الى مكتب المراقب وهناك طلب من المساعد احضار السجلات والكشوفات وتم فرزها ونقل الأسماء حسب البيانات المدونة فيها ، وانتهينا بعد اكثر من ساعة تقريبا وعدنا بعد ان اوصلنا مساعد المراقب الى منزله. والحقيقة اننا وجدنا أنفسنا وقد حُشُرنا في هذه المعمعة دون وعي او إدراك وان كان ما يبرر فعلنا حينها باننا في مهمة وطنية كما يزعمون، الا اننا اصبحنا نشعر بالحرج وربما سوء الظن امام مساعد المراقب بالذات الذي يودنا ويجلنا ونكن له كل الاحترام والتقدير. مرّت تلك الازمة وانفرجت مؤقتا او أجلت الى ما بعد المؤتمر العام الثالث للحزب، وعدنا مع عودة الحياة الى البلاد بانتهاء المظاهر المسلحة وتجمعات الحشود وعودة الخلايا السرية الى الظل بعد ان اتضح ان هذا الخلاف الذي كاد يعصف بالجميع كان بسبب عدد المندوبين للمؤتمر من خلال مؤتمرات المحافظات الذي سيطر عليه الطرف الثاني المحسوب على جناح عبدالفتاح وعلي عنتر او كما قيل، لكن جرى احتواء الموقف من خلال اتفاق قضى بإعداد قوائم تفوز بالتزكية والاتفاق على تقاسم المندوبين في المؤتمر. ومن المبكيات عندما ابلغتنا ادارة المدرسة ان مادة ( الدين ) مادة رسوب في الامتحان الوازاري ، في الوقت الذي لم ندرس لها كتابا منذ ان انتظمنا للدراسة في دار المعلمين ولم تكن مادة مقررة في المنهاج آنذاك ، واتفقنا نحن طلاب سنة رابعة ان نتوجه في اليوم التالي الى ادارة التربية بالمحافظة لينظروا في الامر ، وهكذا انطلقنا راجلين عند الاستراحة الاولى باتجاه ادارة التربية في حشد طلابي كبير بعد ان انظم الينا عدد آخر من الطلاب المتضامنين وكنا نسير على الخط العام ونحن نصفق ونردد ابيات شعرية قديمة اذكر منها : باربط جدتك يالساحمي وسط الحسارة كلما حوّست ساعة جبت خبّارة قدك تفدا على امات المحل وباشحاره والذي في الكود حدّاده ونجّاره لكن المخبرين لم يفهموا مانقول كما يبدو وكان لهم السبق بالوصول لمكتب التربية ، وعندما وصلنا كان الاستاذ حسين دعسة مدرير التربية حينها ومعه بعض العاملين في المكتب ينتظروننا امام الباب من الداخل . طلب منا ان نختار 3 او 5 طلاب لمناقشة الامر معه في المكتب وكنت على راس فريق التفاوض مع اربعة زملاء اخرين بينما تفرق الجمع بعد ان اخبروهم ان التجمعات ممنوعة وانهم سيعاقبون بالفصل من الدراسة ان لم يعودوا الى المدرسة ، وما ان ولجنا مدخل الادارة صرخ الاستاذ دعسة علينا (انتم طلاب والا ثوار ؟ ، ماتعرفوا ان المسيرات ممنوعة ؟ ، ايش كنتوا ترددوا من شعارات ضد الدولة ؟) ، لم نجبه على اي سؤال وكنا مصدومين من ثورته علينا ، وما ان دخلنا المكتب واستوى على كرسيه قال : ايش كنتوا تقولوا في المسيرة ؟ رد عليه زميلنا عبدالله البقيري ماحد ردد شعارات ضد الدولة ولا ضد الحزب ، ولكن اصحاب احور جابوا قصيده ويصفقوا عليها . قال دعسة : من معكم من احور ؟ فاشاروا الي ، فرددت له البيتين السابقين !! قال ؛ ومن هو الساحمي هذا ؟😁 وبعد ان هددنا بالفصل والسجن لتنظيمنا وتزعمنا مسيرة محظورة ، كان لتدخل الحاضرين الفضل في حسم الامر وانتهينا الى ان يرسل مدير التربية مبعوثا الى دار المعلمين في عدن لانهم يحتفظون بملزمة من عدة اوراق وهي كل المقرر للمادة، ومع ذلك جاءت درجة مادة الدين في الشهادة 40 درجة لكل الطلاب المتقدمين للامتحان !. ومن المبكيات ايضا ان الامتحان الوزاري كانت في رمضان وكان يدور في قاعة الامتحان (بالدي) العصير البارد بين الفينة والاخرى، وكان مبرر المفطرين ان لا أحد يصوم عدا عقيل وعيال احور وعم فارع ! . والمضحك المبكي عندما كنا في الداخلية أكثر من ثلاثمائة طالب وعدد الصائمين لا يزيد عن 20 طالب منهم 13-14 طالب من أبناء احور، وكان يُعلن في الطابور الصباحي قبيل رمضان كل عام بان مطبخ الداخلية سيستمر كالمعتاد (فطور-غداء-عشاء) ومن أراد الصوم فليتدبر امره. كنا مجموعة مع اخوة لنا من الثانوية نتناوب على مائدة الإفطار في بيت السيد عبد القادر الجفري، اما السحور فكان يأتينا به احد المدرسين الطيبين الى الداخلية في الثلث الأخير من الليل طوال شهر رمضان مع انه ممن جرفهم تيار المرحلة ولا يفرقون بين رمضان واعياد الكريسمس، حيث كنا نتعجب من إصراره على هذا الفعل النبيل وكيف انه يعيننا على الصوم ويظلم نفسه .