أخبار دولية
الحرب الأهلية في السودان.. كلفة اقتصادية باهظة ودعم إماراتي لا يتوقف
عانى الأشقاء في السودان من توترات داخلية كبيرة بدأت بعد الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير، تبعتها حرب أهلية اندلعت بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ما ألقى بظلال قاتمة على الاقتصاد السوداني في مختلف قطاعاته، وشهدت البلاد دماراً هائلاً في بنيتها التحتية، ووصلت معدلات التضخم إلى أعلاها، وانخفضت قيمة العملة بشكل غير مسبوق، كما شهدت الإنتاجية ضعفاً حاداً، فضلاً عن النزوح الجماعي الذي طال شريحة كبيرة من أهل السودان. لم تغب الأيادي البيض لدولة الإمارات عن مساعي تحفيف المعاناة عن الأشقاء في السودان، بل كانت ولاتزال حاضرة بقوة في تقديم كافة أنواع المساعدات تخفيفاً للمعاناة في محاولة لدفع البلاد إلى بر الأمان، مقدمة مساعدات عابرة للانقسام الحاصل بين طرفي الصراع، حيث وقفت على مسافة واحدة من جميع الأطراف، ووضعت الشعب السوداني في صدارة أولوياتها دون التفرقة بين هذا أو ذاك. بداية الأحداث عند استعراض الأحداث في السودان، بعد ثورة ديسمبر 2018، دخل البلد في مرحلة انتقالية حاولت فيها حكومة عبد الله حمدوك إصلاح الاقتصاد المنهك بسبب العقوبات الدولية وسوء الإدارة. وقد شهدت هذه الفترة عدداً من الأحداث المهمة على المستوى الاقتصادي منها الإعفاء من الديون، حيث حقق السودان انتصاراً مرحلياً وحصل على إعفاء بقيمة 50 مليار دولار من بعض الدول الدائنة مراعاة لظروفه. كما وقعت حكومته في هذه الفترة عدداً من الاتفاقات لإقامة بعض المشاريع التنموية، منها توقيع اتفاقات استثمارية كبرى، مثل مشروع ميناء «أبوعمامة» مع شركة موانئ دبي العالمية «دي بي وورلد» بقيمة 6 مليارات دولار. كذلك حصل السودان على العديد من المنح الدولية العابرة للقارات منها: منحة من قبل البنك الدولي بقيمة ملياري دولار لدعم القطاعات الأساسية في البلاد. لكن السؤال الذي طرح نفسه هو: هل كانت الجهود كافية لإخراج اقتصاد السودان من أزمته الطاحنة؟ للأسف كان الوضع الاقتصادي أعقد من أن تساعده تلك المبادرات، حيث واجه الاقتصاد السوداني تحديات جسيمة منها: التضخم المرتفع والذي بلغ 245% في 2023 بسبب طباعة النقود لتمويل العجز. كما شهدت البلاد انهياراً في قيمة العملة، حيث تراجع الجنيه السوداني أمام الدولار من 570 جنيهاً في أبريل 2023 إلى 1200 جنيه قبل الحرب مباشرة، ثم ارتفع إلى 2700 جنيه في 2025. وشهد الاقتصاد السوداني ضعفاً هائلاً في الإنتاجية، حيث اعتمد الاقتصاد على الزراعة بنسبة وصلت إلى 40% من العمالة، والذهب 50% من الصادرات، بينما ظل القطاع الصناعي ضعيفاً لدرجة تدعو للإحباط. وعند اندلاع الحرب تضافرت عوامل ضعف الاقتصاد لدرجة كبيرة نتج عنها: انهيار الناتج المحلي، حيث انكمش الاقتصاد بنسبة 37.5% في 2023، ثم زاد الانكماش إلى 5.9% في 2024. وشهدت البلاد انهياراً غير مسبوق في بنيتها التحتية، حيث تم تدمير 80% من المصانع خاصة في العاصمة الخرطوم والتي تضم 95% من المنشآت الصناعية. كما تعرضت 60% من شبكات الكهرباء والمياه للتلف الكلي والجزئي، كما تراجعت المساحة المزروعة من الأرض إلى 37%، ما نتج عنه فقدان البلاد عائدات الصمغ العربي والذي تبلغ حصته 70% من السوق العالمية، وانخفض كذلك إنتاج البلاد من الذهب من 18 طناً إلى طنين سنوياً. وكانت النتيجة الطبيعة لتلك الكلفة الاقتصادية الباهظة هو أن شهدت البلاد حالة من النزوح الجماعي، حيث نزح أكثر من 11 مليون سوداني، بينهم 8 ملايين داخل البلاد، كما ارتفعت معدلات الفقر في البلاد ارتفاعاً هائلاً، حيث قفزت نسبة الفقر من 66% إلى 90%، مع فقدان 3 ملايين شخص لوظائفهم. وعانت البلاد من انهيار الخدمات الأساسية بعد أن توقف صرف رواتب الموظفين في قطاعي التعليم والصحة، وانهيار النظام الصحي مع تدمير 13 مليار دولار من منشآت القطاع. وإجمالاً لكل هذه الأرقام التفصيلية، نجد أن التقديرات الحكومية الرسمية في السودان قد تباينت من جراء الأرقام النهائية لهذه الكلفة الباهظة لحجم الخسائر التي تعرض لها القطاع الاقتصادي جراء الحرب، فقد أشارت التقديرات الرسمية إلى بلوغ الخسائر 200 مليار دولار، فيما قدرها المحللون الاقتصاديون بتريليون دولار. كما ظهرت تلك الخسائر في التداعيات على قطاعات الاقتصاد الحيوية من حيث تدميرها لـ 65% من القطاع الزراعي، و75% من القطاع الصناعي، و70% من القطاع الخدمي، 60% من البنية التحتية، وتشريد نحو 30% من السكان بين نازح ولاجئ، أي قرابة 12.5 مليون سوداني من عدد السكان الذي يقدر بنحو 42 مليون نسمة. أيادٍ بيض وسط هذه الصورة القاتمة للوضع في السودان، لم تغب دولة الإمارات للحظة واحدة عن دعم الأشقاء، حيث كانت من أبرز الدول المساهمة في تقديم الدعم الإنساني للشعب السوداني. فقد قدمت الإمارات مساعدات إنسانية تجاوزت 230 مليون دولار شملت إرسال 159 طائرة إغاثة محملة بأكثر من 10 آلاف طن من المواد الغذائية والطبية، إضافة إلى بناء مستشفيين ميدانيين في تشاد، قدما العلاج لأكثر من 45 ألف شخص. وفي يونيو 2024، وقعت الإمارات اتفاقية مع برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة لتقديم مساعدات غذائية طارئة بقيمة 25 مليون دولار، منها 20 مليون دولار للسودان و5 ملايين دولار لجنوب السودان، حيث استهدفت هذه المساعدات اللاجئين والمجتمعات المضيفة والنازحين داخلياً والعائدين المتأثرين بالحرب. وفي الشهر نفسه من ذات العام، خصصت الإمارات 8 ملايين دولار لمنظمة الصحة العالمية دعماً لجهودها الصحية في السودان، حيث استهدفت هذه المساهمة تعزيز البنية التحتية للرعاية الصحية، وقدرات الاستجابة لحالات الطوارئ، وبرامج الوقاية من الأمراض. وفي يونيو 2024، كذلك، وقعت الإمارات اتفاقية مع منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة «الفاو» لتقديم 5 ملايين دولار لدعم مشروع «تخفيف المجاعة في السودان». واستهدف المشروع توفير مساعدات طارئة في مجال المحاصيل والماشية والخدمات البيطرية لنحو 275 ألف أسرة من صغار المزارعين والرعاة الضعفاء. وفي أغسطس 2024، وقعت الإمارات اتفاقية مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة «اليونيسيف» لتقديم 7 ملايين دولار لدعم الجهود الإنسانية في السودان وجنوب السودان. وخصصت الاتفاقية 6 ملايين دولار لعمليات اليونيسيف في السودان، ومليون دولار لأنشطتها في جنوب السودان، ما عزز التزام الإمارات بالتخفيف من حدة الأزمة الإنسانية الشديدة في البلدين. أكدت هذه المبادرات وغيرها، التزام دولة الإمارات الثابت والمستمر بدعم الشعب السوداني في أوقات الأزمات، وعكست شراكتها الوثيقة مع المنظمات الإنسانية الدولية لتخفيف معاناة المتضررين. ماذا بعد؟ الشاهد مما سبق أن الاقتصاد السوداني يحتاج الكثير والكثير من الأيادي لانتشال اقتصاده من هذه الأزمة الطاحنة، وقد اختلفت التقديرات حول كُلفة إعادة الإعمار، حيث تراوحت بين 127 مليار دولار إلى 140 ملياراً، بحسب تقديرات الحكومة والخبراء المحليين، وتراوحت بين 200 مليار إلى 300 مليار دولار لتغطية دمار البنية التحتية والقطاعات الإنتاجية. وهناك سؤال آخر يطرح نفسه: من سيدفع كُلفة إعادة الإعمار؟ وهنا نجد أن مصادر التمويل المحتملة ستكون: المساعدات الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الأفريقي للتنمية. كذلك هناك مصدر آخر وهو الاستثمارات الخارجية، وأيضاً هناك أموال المغتربين، حيث تقدر نسبة السودانيين بالخارج الذين يمتلكون ودائع تصل إلى 90% من الذهب والعملات الأجنبية خارج النظام المصرفي. ورغم الصعوبات التي تواجه الأشقاء في السودان، تبقى فرص التعافي قائمة لكنها ستكون مشروطة بعدة أمور: تحقيق السلام المستدام وتشكيل حكومة ذات مصداقية، وجذب استثمارات دولية مع ضمان الشفافية، وإعادة إحياء القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والذهب. لذلك يمكن القول إن السودان أمام مفترق طرق؛ حيث يتوجب على مختلف الفرقاء السياسيين والعسكريين أن يعلوا من مصلحة وطنهم وأن يضعوا مستقبل المواطن السوداني وازدهاره نصب أعينهم، حتى ينتقل السودان إلى مستقبل أكثر إشراقاً.